كيف يتم إلهاء الناس عن المشاكل الداخلية لبلادهم ؟

! في روما القديمة كانت عروض القتال والمصارعة بين المحاربين غرضها إشغال الناس عن المشاكل الداخلية للإمبراطورية

Image may contain: one or more people, stadium, crowd and outdoor

عشر إستراتيجيات للتحكم في الشعوب يخبرها لك نعوم تشومسكي

ليس كل مايُقال في الإعلام تصدقه، ولا يمكن النظر إليه على أنه يمثل الحقيقة الكاملة، فكثير من الحكام وأصحاب السلطة يُخفون أجنداتهم وخططتهم الحقيقية باستخدام الإعلام والدعاية، اللذين لهما الدور الأبرز في تشكيل الرأي العام وتكوينه، فبفضلهما تنشأ حركات اجتماعية أو تندثر، وتبسط وتخفف بعض الأزمات الاقتصادية، وتٌبرر الحروب، ويتم تأجيج وإشعال الخلافات بين الأيدولوجيات المختلفة

هكذا يتحدث الناقد والمفكر “نعوم تشومسكي”، الذي يجيب على سؤال مفاده، كيف يؤثر الإعلام علينا نفسيا بهذا الشكل؟ من خلال بلورة 10 استراتيجيات يسلكها الإعلام الموجه لإحداث تلك التأثيرات النفسية، وبالرغم من أن بعض هذه الأدوات واضح إلى أنه لايزال على قدركبير من الفاعلية والتأثير على الناس، ومن وجهة نظر البعض فإن هذه الأدوات مهينة وتعزز الغباء، وقد استند تشومسكي في كشفه لتلك الاستراتيجيات إلى “وثيقة سريّة للغاية” يعود تاريخها إلى مايو 1979، وتمّ العثور عليها سنة 1986، و تحمل عنوان: “الأسلحة الصّامتة لخوض حرب هادئة “، وهي عبارة عن كتيّب أو دليل للتحكّم في البشر السيطرة على المجتمعات

وفي هذا التقرير نتحدث عن تلك الاسترتيجيات الـ10 التي يسلكها الإعلام للإلهاء والتحكم في الشعوب نعتمد بشكل أساسي على مقال نعوم تشومسكي في هذا الصدد

في هذا المقال إستند عالم اللسانيات و المفكر الأمريكي ناعوم شومسكي على” وثيقة سرية للغاية” يعود تاريخها إلى العام 1979 و تم العثور عليها سنة 1986 عن طريق الصدفة ،وتحمل عنواناً مثيراً

(silent weapons for quiet war)

” الأسلحة الصامتة لخوض حرب هادئة ”

و هي عبارة عن كتيب أو دليل للتحكم في البشر و المجتمعات، و يرجح المختصون أنها تعود إلى بعض دوائر النفوذ العالمي التي عادة ما تجمع كبار الساسة و الرأسماليين و الخبراء في مختلف المجالات

و في هذا المقال ” استراتجيات التحكم و التوجيه و التضليل العشر “، يضعنا شومسكي أمام طرق ذكية تعتمدها دوائر النفوذ في العالم عبر وسائل الإعلام من أجل التلاعب بجموع الناس و توجيه سلوكهم والسيطرة على أفعالهم وتفكيرهم في مختلف بلدان العالم

استراتيجية الإلهاء

“حافظوا على تحويل انتباه الرأي العام بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية والهوه بمسائل تافهة لا أهمية لها. أبقُوا الجمهور مشغولا، مشغولا، مشغولا دون أن يكون لديه أي وقت للتفكير، فقط عليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات الأخرى.” مقتطف وثيقة “ أسلحة صامتة من أجل خوض حروب هادئة”

ويقول “تشومسكي” أن عنصرًا أساسيًا في التحكم الاجتماعي هو إلهاء انتباه العامة للقضايا والتغييرات الاجتماعية الهامة التي تحددها النخب السياسية والاقتصادية، من خلال تصدير كم كبير من الإلهاءات والمعلومات التافهة، وتتضمن تلك الاستراتيجة أيضا منع العامة من الاطلاع والمعرفة الأساسية بمجالات العلوم والاقتصاد وعلم النفس والعلوم البيولوجية

 اخلق المشكلة ووفر الحل

EGYPT-UNREST-BOMB-JUDICIARY : News Photo
EGYPT-UNREST-BOMB-JUDICIARY
Egyptian security forces stand guard at the site of a bomb attack that targeted the convoy of Egyptian state prosecutor, Hisham Barakat, who died hours after the powerful explosion hit his convoy, in the capital Cairo on June 29, 2015. The bombing came after the Islamic State group's affiliate in Egypt called for attacks on the judiciary following the hanging of six alleged militants.

تستخدم هذه الاستراتيجة عندما يريد من هم في السلطة أن يمرروا قرارات معينة قد لا تحظى بالقبول الشعبي إلا في حضور الأزمة التي قد تجعل الناس أنفسهم يطالبون باتخاذ تلك القرارات لحل الأزمة، وتعرف بطريقة “المشكلة – رد الفعل – الحل” من خلال اختلاق موقف أو مشكلة يستدعي رد فعل الجمهور فعلى سبيل المثال: دع العنف ينتشر في المناطق الحضارية أو قم بالتحضير لهجمات دموية، مما يجعل الجمهور هو الذي يطالب السلطة باتخاذ إجراءات وقوانين وسياسات أمنية تَحُد من حريته، أو اختلق أزمة اقتصادية للقبول بحل ضروري، يجعل الناس يغضون الطرف عن حقوقهم الاجتماعية وتردي الخدمات العامة باعتبار ذلك الحل “شر” لابد منه

 التدرج

لتحقيق ما يمكن قبوله من تدابير عليك، يمكنك تقبله تدريجيا قطرة بقطرة، فخلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي تم فرض عدد من الظروف الاجتماعية والاقتصادية الجديدة والمختلفة بشكل جذري عن سابقتها تدريجيا، وأدت إلى ازدياد نسبة البطالة، ومرتبات غير لائقة، وعدم الاستقرار، واللا مركزية والتوسع في الخصخصة، ونقل الملكيات من إدارة لأخرى، والعديد من التغييرات الجذرية التي كانت ستتسبب في ثورة لو تم تطبيقها دفعة واحدة

 التأجيل

واحد من الطرق التي يتم استخدامها لتمرير قرار غير مقبول شعبيا، هو تقديمه على أنه “موجع ولكنه ضروري”، فمن الأسهل أن يتقبل العامة قرارًا مستقبليًا على أن يتقبلوا قرارًا فوريًا، وذلك لأن المجهود المطلوب من العامة لن يتم بذلك بشكل فوري، كما أن هناك اتجاه عام لديهم بأن “المستقبل دائما أفضل” ومن الممكن أن نتجنب التضحية المطلوبة، وهذا يعطي مزيدًا من الوقت للعامة كي يتأقلموا مع القرار وقبوله حتى يحين وقت تنفيذه

 خاطب العامة كأنهم أطفال

“إذا تمَّ التوجه إلى شخص ما كما لو أنه لم يتجاوز بعد الثانية عشرة من عمره، فإنه يتم الإيحاء له بأنه فعلا كذلك؛ وبسبب قابليته للتأثر، من المحتمل، إذن، أن تكون إجابته التلقائية أو ردُّ فعله مفرغة من أيِّ حس نقدي كما لو أنه صادر فعلا عن طفل ذي اثني عشر سنة.” – دليل “أسلحة صامتة من أجل خوض حروب هادئة”

دائما ما تستخدم معظم الإعلانات الدعائية الموجَّهة لعامة الشعب خطبا وحججا وشخصيات نبرةً طفولية ضحلة وسطحية، كما لو كان المشاهدَ طفلًا صغير أو معاقًا ذهنيا

 استخدم الجانب العاطفي بدلا من الجانب التأملي

استخدام الجانب العاطفي هو أسلوب كلاسيكي للقفز على التحليل المنطقي والحس النقدي للأفراد بشكل عام، فاستخدام الجانب العاطفي يفتح المجال للعقل الباطني اللاواعي لغرس الأفكار والرغبات والمخاوف والقلق والحض على القيام بسلوكيات معينة

 إبقاء العامة في حالة من الجهل والغباء

“يجب أن تكون جودة التعليم المقدم للطبقات الدّنيا، رديئة بشكل يعمق الفجوة بين تلك الطبقات والطبقات الراقية التي تمثل صفوة المجتمع، ويصبح من المستحيل على تلك الطبقات الدّنيا معرفة أسرار تلك الفجوة” – دليل “الأسلحة الصامتة لخوض حروب هادئة”
وبذلك يصبح المجتمع عاجزًا عن فهم التقنيات والأساليب المُستخدمة للسيطرة عليه واستعباده من قبل من هم في السلطة

 تشجيع العامة على الرضا بجهلهم

تشجيع الجمهور على أنه من الطبيعي والمألوف أن يكونوا جهلة وأغبياء وغير متعلمين

 تحويل التمرد إلى شعور ذاتي بالذنب

من خلال جعل كل فرد يشعر بأنه السبب في تعاسته وسوء حظه، وذلك بسبب قصور تفكيره وذكائه وضعف قدراته، وقلة الجهود المبذولة من جانبه، وهكذا بدلا من أن يتمرد ضد النظام، ينغمس في الشعور بالتدني الذاتي الذي يؤدي لحالة من الاكتئاب تحبط أي محاولة للفعل لديه/ وبدون القيام بأي فعل، لايمكن أبدا للثورة أن تتحقق

 معرفة الأشخاص أكثر مما يعرفون أنفسهم

أدى التقدم العلمي المتسارع، الذي شهدته الـ50 عاما الأخيرة، إلى توسيع الفجوة بين المعرفة العامة والمعرفة التي تمتلكها النخب الحاكمة، فبفضل علوم الأحياء والأعصاب وعلم النفس التطبيقي، تمكن “النظام ” من معرفة الكائن البشري جسديا ونفسيا، فالنظام يستطيع معرفة الشخص العادي بشكل أفضل مما يعرف هو نفسُه، وهذا يعني أن النظام، في أغلب الحالات، هو الذي يملك أكبرَ قدر من السيطرة والسلطة على الأفراد أكثر من الأفراد أنفسهم

 إن أهداف إستراتيجية الإلهاء المتبعة من بعض الحكام العرب لم تتغير منذ آلاف السنيين مهما تغيرت الأسماء والأماكن والهدف واحد هو البقاء في الحكم 

 من كون البلد مستهدفاً إلى قلة مندسة تسعى إلى تخريبه إلى أصحاب أجندات خارجية … لا يزال كثير من حكامنا العرب يتفننون في نسج فصول مسرحيتهم الوحيدة التي يجيدونها ولا يسعون حتى إلى التجديد فيها. ساعدهم في ذلك أنه خلال الخمسين سنة الماضية نتج عن التقدم السريع في العلوم اتّساع للفجوة بين المعارف العامة وتلك التي تملكها وتستخدمها النخب الحاكمة، وبفضل علم الأعصاب وعلم الأحياء وعلم النفس التطبيقي وصل النظام العالمي إلى معرفة متقدّمة للكائن البشري على الصّعيدين الفيزيائي والنّفسي

 لقد أصبح هذا النّظام قادرا على معرفة الفرد المتوسّط أكثر ممّا يعرف نفسه، وهذا يعني أنّ النظام في أغلب الحالات يملك سلطة على الأفراد أكثر من تلك التي يملكونها على أنفسهم

 ما يستدعي هذا الحديث هو ما نراه من تطبيق شبه حرفي لاستراتيجية إلهاء الشعوب التي تنفذ وتطبق في معظم الأوقات كضرورة بحسب الحاجة إليها، بأنواع وأشكال عدة، منها إلهاءٌ للتأثير أو سيطرة الحاكم على من حوله طوعا أو كرها والمحافظة على المكتسب وإبقاء الحال على ما هو عليه لأطول مدة ممكنة، وقد تنوعت الأساليب المتبعة للوصول إلى أنجع السبل لإدارة الجماهير والتحكّم في البشر وتدجين المجتمعات والسيطرة عليهم وتوجيه سلوكهم والسيطرة على أفعالهم وتفكيرهم

 وكان الزعيم الايطالي ببينيتو موسوليني مغرماً بكتاب الحشد لجوستاف لبون حتى أنه لا يفارقه، وكان كتاب الحشد يدرس الشكل النفسي والعقلية التي تدير بها هذه الحشود والجماعات نفسها

 للأسف إلى الآن يتم تحويل انتباه الرأي العام في كثير من دولنا العربية عن القضايا الهامة والتغيرات التي يقررها أصحاب القرار عبر إغراق النّاس بوابل متواصل من المعلومات التافهة, فلكي تتحقق الفائدة لهؤلاء الحكام يجب الحفاظ على تشتيت اهتمامات العامة بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، بجعل الاهتمامات موجهة نحو مواضيع ليست ذات أهمية. وجعل الشعب منشغلا دائما وأبداً، بل ان الامر يتعدى نحو ابتكار مشكلة أو موقف لاثارة ردّة فعل معيّنة من قبل الشعب، بحيث يندفع الجمهور طالبا لحلّ يرضيه، كالسّماح بانتشار العنف في بعض المناطق الحضرية، أو تنظيم هجمات إرهابية وقد تكون دموية، حتى تصبح قوانين الأمن العام مطلوبة ولو على حساب الحرية. أو خلق أزمة اقتصادية يصبح الخروج منها مشروطا بقبول الحدّ من الحقوق الاجتماعية وتفكيك الخدمات العامّة, فيتمّ تقديم تلك الحلول المبرمجة مسبقا, ومن ثمّ قبولها على أنّها شرّ لا بدّ منه او تمرير إجراء غير مقبول من الممكن ان يثير ثورة داخل البلاد لو تم تنفيذه دفعة واحدة بتطبيقه بصفة تدريجيّة

 بل يصل الامر الى مخاطبتهم الشعب كمجموعة قصّر وأطفال صغار والاخطر التوجّه إلى مخاطبة العواطف وهو أسلوب كلاسيكي لتجاوز التحليل العقلاني، بالتالي يتعطل الحسّ النقدي للأشخاص كما أنّ استعمال المفردات العاطفيّة يسمح بالمرور إلى اللا وعي حتّى يتمّ زرعه بأفكارهم وإيثار الرّغبات أو المخاوف والانفعالات. وكذلك محاولة إبقاء الشّعب في حالة جهل وحماقة بحيث يكون غير قادر على استيعاب التكنولوجيات والطّرق المستعملة للتحكّم به واستعباده. واخيرا تشجيع الشّعب على استحسان الرّداءة وان ينظر بعين الرضا إلى كونه غبيّا ومبتذلا وغير متعلّم فمن دام على شيء ألفه

 إن أهداف إستراتيجية الإلهاء المتبعة من بعض الحكام لم تتغير منذ آلاف السنيين مهما تغيرت الأسماء والأماكن، فالهدف واحد وهو البقاء في الحكم، وإذا قامت معارضة نُعتت بصفات عدة هي الأقذع على نهج ما أبداه فرعون مصر من تخوفه من دعوة نبي الله موسى عليه السلام “إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ”، وعندما قال رجل مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ “أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ” قَالَ فِرْعَوْنُ “مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَاد”

 لقد مضى قرابة النصف قرن على بعض هؤلاء الحكام العرب في مناصبهم ولا يريدون التخلي عن كراسيهم أو صلاحياتهم المطلقة دون خوض معارك دامية بينهم وبين شعوبهم، فخلال الربيع العربي وهو ربيع الثورات التي تقوم بها الشعوب العربية نجد هؤلاء يرتكبون نفس الخطأ في مواجهة شعوبهم ويطلقون عليهم جميع أنواع التهم و السفاهات
لم يعد إلهاء الشعوب مجرد ألاعيب حاكم، بهدف إخضاع شعبه. يتفوق فيها صاحب الدهاء. وإنما أصبح صناعة يخطط لها. وترصد من أجل نجاحها الأموال وتقام لها الدراسات والإستراتيجيات بعيدة المدى
وتتعدد مفردات الإلهاء ما بين إعلام فاسد وفن هابط وافتعال مشكلات اقتصادية واجتماعية بل وفتن طائفية بين نسيج المجتمع. ولعل أحدث مولود فى مفردات الإلهاء ما يسمى بالألتراس. رغم أن كرة القدم نفسها تعد من أكبر عوامل الإلهاء. وفى بلادنا قديما صيغت لأجلها الأغانى والألحان "إنت أهلاوى ولا زملكاوى". وقديما أيضا قيل "أعطنى إعلاما فاسدا. أعطك شعبا خاضعا"
ورغم أن الألتراس التى معناها «التعصب العنيف» اختراع إيطالى منذ الستينيات وقيل فى أمريكا اللاتينية قبل ذلك بخمسين عاما، فإن نجلى المخلوع مبارك جلبا الفكرة إلى بلادنا فى عام 1995، ليكون هؤلاء الشباب الأبرياء المتعلمون (ولاد الناس) خير دعاية له فى قضية التوريث. فتلونت السياسية كالحرباء ودخلت دهاليز الرياضة ففسدت الاثنتان معا
ورغم مرور أكثر من 500 عام على طرح أفكار ميكافيلى صاحب المقولة الشهيرة الغاية تبرر الوسيلة فى كتابه الشهير البرنس (الأمير) الذى أعطى فيه نصائح لكل ديكتاتور كيف يحكم شعبه. ومن وقتها وأصبحت تلك الأفكار النواة الأهم لصياغة سياسات كاملة لفنون وإستراتيجيات إلهاء الشعوب

ولأن الحكام فى كل مكان وزمان لم يتغيروا على مر العصور كان هدفهم جميعا واحدا وهو البقاء فى الحكم لأجل غير مسمى، ومن أجل حفاظهم على هذا الحكم يرتكبون كل الجرائم المعادية لحقوق الإنسان ويبتكروا الحيل والألاعيب فى إلهاء شعوبهم عن قمعهم وطمعهم فى الحكم. وهى ليست حيلا وألاعيب عربية فقط وإنما سبقنا إليها طغاة الغرب. فغير خاف ما فعله جورج بوش الابن من إشعال الحروب فى كل مكان للهروب من الشائعات التى أحاطت بانتخابه وما حدث به من تزوير. ولا يزال كثير من حكامنا العرب حتى الآن يسيرون على نفس النهج ويتفننون فى خداع الشعوب ليل نهار
وتتجلى الظاهرة فى عهد الرئيس المخلوع مبارك حيث اختلق هاجس الزيادة السكانية لتبرير سياسية التقشف وبيع القطاع العام للتغطية على فساده وفساد حاشيته

"انتحار جماعى"

يؤكد الدكتور عاصم الدسوقى أستاذ التاريخ الحديث بجامعة حلوان بأن سياسية إلهاء الشعوب هى سياسة قديمة قدم الإنسان نفسه، حيث كان ملوك الفراعنة والممالك القديمة يلهون شعوبهم بابتكار الأعياد والمناسبات التى يغدق فيها هؤلاء الملوك بالأموال أو مآدب الطعام بديلا لمشاكل البلاد الاقتصادية والسياسية أو فى حالات كثيرة، كان يتم إخماد أى محاولات للانقلاب والتخلص من المعارضة بافتعال حروب خارج البلاد

ويقول الدسوقى: مقولة التاريخ يعيد نفسه مقولة صحيحة جدا وتنطبق على نهاية كل ديكتاتور ولكن الحكام العرب لم يتعلموا أبدا من التاريخ خصوصا أنه مضت على جلوسهم فوق عروشهم ومناصبهم سنوات طويلة، وهم لا يريدون التخلى أبدا عن كراسيهم أو صلاحياتهم المطلقة وعندما بدأت الشعوب العربية تتحرك وهبت رياح التغيير هنا وهناك، وجدناهم يرتكبون نفس الأخطاء فى مواجهة شعوبهم ويطلقون عليهم نفس التهم والتفاهات كتلك التى قد أطاحت بالرئيس التونسى والرئيس المصرى والرئيس الليبى ومازال الباقون منهم ينتهجون نفس الأسلوب مثل الرئيس السورى الآن كما لو كانوا قد اتفقوا على الانتحار الجماعى، فتراهم يلجأون إلى العنف الزائد تارة والوعود بإجراء إصلاحات لا فائدة منها تارة أخرى. بل إن بعض الممالك العربية الخليجية انتهجت نهجا قديما مكشوفا مثل السعودية والكويت والإمارات فأغدقت على مواطنيها الأموال والمنح المغرية لإبعادها عن التفكير فى القيام بالثورات ضدهم

"استقلال الإعلام"

سياسة الإلهاء من وجهة نظر الدكتور على عجوة، عميد كلية الإعلام السابق هى سياسة نجحت بشكل كبير فى الدول النامية أكثر من الدول المتحضرة، وذلك كما يرى بسبب الاستخدام المطلق للحكام لوسائل الإعلام وتبعيتها له فى سياسته للإلهاء وتضليل الشعوب، وبعدها عن رسالتها الأساسية فى التنوير وتقديم المعلومات على عكس الإعلام فى الدول المتحضرة وسماته فى الاستقلالية والموضوعية وأهدافه فى التعبير عن واقع المجتمع ومشكلاته
ويقول عجوة: إن صفوة المجتمع من مفكرين وسياسين وبرلمانيين ضمن أسباب خضوع الإعلام الكامل لإرادة الحاكم. وعدم الوقوف أمام هذا الانجراف ومواجهته بالإضافة إلى سبل الحاكم القهرية لإجهاض أى محاولة لتوضيح الحقيقة سواء بالنفى أو بالعزل وسط المجتمع وغيرها من أساليب بطش عديدة. فكان الإعلام الأداة الأهم فى توجيهه الناس ناحية القضايا المختلقة والفزعات المتعمدة وإبعاد الناس عن حقائق الأمور والبحث فى تفاصيلها التافهة
ويضيف عجوة إن أساليب إلهاء الشعوب من خلال وسائل الإعلام عديدة فمنها التركيز على مبارايات الكورة وخلق فجوة بين مشجعى الفرق والتفرقة بينهم كمشجعى الأهلى والزمالك. وأحيانا خلق فجوة ومعارك وهمية بين الشعوب وبعضها كقضية مصر والجزائر بسبب مبارة كرة قدم
ويرى عميد كلية الإعلام السابق الحل لعدم استخدام الإعلام فى سياسات الإلهاء هو استقلاله عن الحكومات وذلك ما يتوقع حدوثه الأيام المقبلة بعد الثورات العربية وإنهاء ظاهرة الخوف التى كانت تملأ قلوب الشعوب فى مصر والوطن العربى خصوصا أن الخوف هو ما يقتل ضمير الإعلامى أو المفكر

"الإلهاء بالإرهاب"

أما الدكتور حسن الخولى، أستاذ علم الاجتماع السياسى بجامعة عين شمس يقول إن سبل الحاكم لإلهاء الناس عديدة فقد يتعدى الأمر إلى ابتكار مشكلة أو موقف لإثارة رد فعل معين عند الناس بحيث يندفع الجمهور، مطالبا بحل يرضيه كالسماح مثلا بانتشار العنف فى بعض المناطق الحساسة أو تنظيم هجمات إرهابية دموية لأماكن بعينها حتى تصبح قوانين الأمن العام مطلوبة ولو حتى على حساب حرية الآخرين أو خلق أزمة اقتصادية يصبح الخروج منها مشروطا بقبول الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية وتفكيك بعض الخدمات العامة الحيوية، وبناء عليها يتم تقديم حلول مبرمجة لنا سلفا وواجبة القبول على أنها شر لابد منه أو تمرير لإجراء أو قانون غير مقبول من الممكن أن يثير ثورة داخلية فى البلاد، لو تم تنفيذه دفعة واحدة وتطبيقه بشكل تدريجى حتى يتم قبوله
ويؤكد الخولى أن علم سياسية إلهاء الشعوب يتم تدريسها على المستويين الأكاديمى والسياسى لرجال الأمن وصانعى القرارات ومن يقوم على تدريسها ويضع مناهجها ويقوم بتنفيذها هى جهة الاستخبارات فى كل بلد. وإذا أردنا مثالا صارخا لذلك فهو ما حدث عند غرق العبارة السلام فى مصر منذ سنوات وتركيز الدولة الكبير فى ذلك الوقت وحشد عواطف الناس حول كأس الأمم الإفريقية لكرة القدم لإلهاء الناس عن هذا الحدث الجلل الذى إن دل يدل على سوء حكم البلاد والفساد المستشرى فيه

"شباب ضائع"

أما ظاهرة الألتراس التى أصبحت بحق من أهم الظواهر الاجتماعية لهذا الجيل والمتهم الأول لإلهاء الشباب. ففى النظام السابق تركت لإلهائه عن مشاكل مجتمعه. وبعد الثورة استخدمت لإلهائه عن مسارها الصحيح هذا ما يؤكده الدكتور عمار على حسن الباحث السياسى والاجتماعى قائلا: إن الألتراس ارتبط اسمه أخيرا بأحداث مؤسفة منها موقعة استاد بورسعيد واشتباكات وزارة الداخلية الأخيرة وما قبلها وذلك بسبب قلة خبرة هؤلاء الشباب السياسية والفكرية. على الرغم أن تلك الظاهرة من صنع النظام السابق وقيادة جمال مبارك فى التسعينيات بهدف تكوين قاعدة كبيرة من الشباب لدعم مخططه فى حكم البلاد وكذلك إنشائه لجمعية جيل المستقبل وعدة مشاريع تختص بالشباب، فإن الشباب وجدوا أنفسهم الضائعة فى تلك التجمعات المنظمة لأنها حققت أبسط قواعد علم الاجتماع فى بحث الفرد عن فكرة أو قضية ينتمى إليها، وجاء تعبير الشباب عن أنفسهم بالعنف والهمجية ذلك ما نماه وأثقله النظام السابق بعدم التصدى له وتركه كنوع من التنفيس والإلهاء عما يجرى من حولهم
ويضيف حسن قائلا: إن دفع الألتراس من وقت لآخر فى أحداث المجتمع أوتورطه فى المشاكل التى يستغلها فلول النظام السابق لكى يلهى الناس والأحزاب والحركات السياسية إما فى الدفاع عنهم او إدانتهم ويحدث جدل عميق وكبير بين أفراد المجتمع مقابل ترك القضايا الأساسية وأهداف الثورة الحقيقية، وأكبر مثال على ذلك ما يحدث الآن منذ أيام بعد أحداث مبارة الأهلى والمصرى فى بورسعيد والتى راح ضحيتها نحو 75 قتيلا والجدل بين براءة الألتراس البورسعيدى ورد فعل الألتراس الأهلاوى, حيث أصبح هناك ثأر بين مشجعى الناديين وهذا ما تظهره وسائل الإعلام المختلفة ومواقع الإنترنت. مشيرا إلى ردود الأفعال الغاضبة للنشطاء على مواقع التواصل الاجتماعى الفيس بوك احتجاجاً على أحداث بورسعيد بعد أن أصبح لون الحداد الأسود هو اللون المنتشر على صفحات معظم النشطاء حيث جاءت تعليقات عديدة إن دلت تدل على نجاح الدولة فى إلهاء الشعب المصرى بعد اختلاق مثل تلك الأزمات ومنها "مطالبة البعض بإلغاء المنطقة الحرة فى بورسعيد كعقوبة للشعب البورسعيدى بأكمله على هذه الجريمة". وتعليق آخر يقول" فى بلدنا الكورة مبقتش يا غالب يا مغلوب دى بقت يا قاتل يا مقتول". وآخر يقول" تحولت الفترة الانتقالية إلى فترة انتقامية"

"إستراتيجيات الإلهاء"

ومن ناحيته يقول الدكتور قدرى حفنى، أستاذ علم النفس إن فنون إلهاء الشعوب كانت فعالة فى وقت سابق، أما الآن ومع الانفتاح الإعلامى يصبح الأمر صعبا خصوصا مع تشابه آليات تلك السياسة فى كل الدول والتى لخصها حديثا المفكر الأمريكى نعوم تشومسكى فى عشر استراتيجيات للتحكم بالشعوب وهى كالتالى. إستراتيجية الإلهاء بالمجتمعات وتتمثل فى تحويل انتباه الرأى العام عن المشاكل المهمة. وإستراتيجية ابتكار المشاكل ثم تقديم الحلول. وإستراتيجية التدرج والتطبيق بصفة تدريجية. وإستراتيجية المؤجل وهى طريقة أخرى يتم الالتجاء إليها من أجل إكساب القرارات المكروهة للقبول. وإستراتيجية مخاطبة الشعب كمجموعة أطفال صغار. وإستراتيجية استثارة العاطفة بدل الفكر. وإستراتيجية إبقاء الشعب فى حالة جهل وحماقة. وإستراتيجية تشجيع الشعب على استحسان الرداءة. وإستراتيجية تعويض التمرد بالإحساس بالذنب. وإستراتيجية معرفة الأفراد أكثر مما يعرفون أنفسهم
ويقول د. حفنى إن الشعوب العربية - ليست كما يصفها البعض - شعوب عاطفية ولا تحكم عقلها فى مجريات حياتها، فالأيام السابقة وأحداث الثورات أكدت عكس ذلك فى تفكير الشعوب المنظم وتحليلهم للأمور والأحداث ومواجهتها السياسية. مشيرا إلى دور الصفوة العاقلة فى توعية الناس والرأى العام لتفادى أى محاولة لخداعه من قبل الحكام أو المستفيدين لإجهاض الثورات بالإضافة إلى دور الإعلام المسئول الموضوعى الوطنى فى كشف المؤامرات التى تحاك ضد الشعب أو سبل إلهائه

"خيانة عظمى"

ومن جهة أخرى أكد الدكتور شوقى السيد الفقيه القانونى أن الإخلال من الحاكم بميثاق الشرف الذى أقسم عليه فى أن يحافظ على الوطن ومصالح المواطنين هو جريمة خيانة عظمى تستحق العقاب السياسى والجنائى. لأن أى إخلال بمسئولية أساسية تعهد بها الحاكم أو موظفوه هو إخلال جسيم بمهام وظيفته فى خدمة الشعب ومصارحته بالحقائق مما يؤدى إلى مساءلته القانونية إذا حاول القيام بحيل الإلهاء عن المصالح العامة أو المطالبة بالحقوق مقابل مصالح شخصية ومكسب فردى لهؤلاء الحكام والقادة
ويقول د. شوقى: إن الحكام العرب وما فعلوه فى عشرات السنوات الماضية من تغييب لعقول شعوبهم وإبعادهم عن المشاكل الحقيقية مقابل مشاكل وهمية اختلقوها كصراعات طائفية أو نزعات حدودية يستحقون عليها محاكمتين: الأولى سياسية وعقوبتها العزل السياسى من المنصب والثانية محاكمة جنائية ويتم تحديد العقوبة بالحبس أو الإعدام حسب مدى الضرر الذى أصاب المجتمع من اختلاق المشاكل والأزمات والتى قد يصل بها الأمر لموت العشرات والمئات نتيجة لتلك الأزمات الوهمية

"فن النكسة ومبارك"

يرى طارق الشناوى، الناقد السينمائى، أن فن إلهاء الشعوب باستخدام الفن فى الأفلام السينمائية والمسلسلات والأغانى استخدم بشكل كبير فى مصر خصوصا فى أوقات الأزمات والحروب، فخير مثال على ذلك وضع السينما عقب نكسة 67 حيث ظهرت موجة الأفلام الكوميدية لفؤاد المهندس منها (شنبو فى المصيدة) و(عماشة فى الأدغال ) و(مستر إكس). وغيرها بهدف التخفيف عن الناس ورسم البسمة على وجوههم وفى نفس الوقت إلهاؤهم عن أسباب الهزيمة كذلك قلت الرقابة على الأفلام وسمحت بوجود مشاهد جنسية فى السينما بشكل كبيرومنها أفلام (حمام الملاطيلى) و(خلى بالك من زوزو) بالإضافة لترك مساحة للتنفيث من خلال نقد بعض الأشياء التى كان ممنوعا حتى التلميح عنها مثل نقد الاتحاد الاشتراكى وجاء ذلك بناء لتعليمات من الرئيس جمال عبدالناصر للتخفيف عن الروح المعنوية للشعب المصرى
ويشير الشناوى إلى عصر مبارك الذى استخدم فيه الفن كوسيلة مهمة لإلهاء الناس عن قضايا الفقر وتردى حال التعليم والصحة فظهرت موجة أفلام المقاولات وأغانى الفيديو كليب والأفلام الكوميدية الهابطة منها فيلما (اللمبى) و(بوحة) وغيرهما الكثير وانتشار الفضائيات وقنوات الرقص والأغانى. ويقول إن إلهاء الشعوب باستخدام الفن دائما يصاحبه نوع من الفساد للمزاج العام بسبب تردى وضع المجتمع فى تلك الفترة، فيصبح الفرد لديه استعداد لتقبل أى شىء حتى لو خارج إطار

 الخلاصة

 في مقال له في الإندبندنت يتعجب الكاتب باتريك كوكبرن بقوله “الغريب في الأمر أن الحكام العرب الواحد تلو الآخر يرتكبون الأخطاء التي أطاحت بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك”

 يتصرف هؤلاء المستبدون كالزعيم الليبي معمر القذافي وعلي عبد الله صالح في اليمن، كما لو كانوا اتفقوا على الانتحار الجماعي، فتراهم يلجأون إلى العنف الزائد تارة والوعود بإجراء إصلاحات لا فائدة منها تارة أخرى، بكميات مناسبة تماما لخلع أية مصداقية عنهم وتعطيل أنظمتهم

 لقد اكتشف هؤلاء فجأة أن الوصفات التي مكنتهم من البقاء في الحكم منذ أوائل السبعينيات لم تعد ناجعة، والأمر ينطبق على الملكيات والجمهوريات على حد سواء لأنها تعمل بنفس الطريقة، ويتناسون انه لو صمدت ذرة من الحق أمام جبل من الباطل لهزمته

 الخاتمة

 لقد حققت تلك الاستراتيجيات وأساليب القمع التي اتبعها الحكام خلال العقود الماضية ميزة لهم عبر التلاعب بمجتمعاتهم وشعوبهم وإلهائهم. أما الآن فقد اختلفت أصول اللعبة؛ فثورة التكنولوجيا بما أتاحته للشعوب فضلا عن الحالة المزرية لشريحة كبيرة من الشعب والغناء الفاحش للحكام مع إمكانية معرفة حجم ثراء وطريقة معيشة الحكام من قبل شريحة واسعة جدا من العامة وبسرعة هائلة كل ذلك أفقد تلك الاستراتيجيات فاعليتها. وهو ما يوجب على الحكام العرب المسارعة بتنفيذ إصلاحات سياسية واجتماعية وعدم التشبث بأساليب لا تنفع بل تضر مثل نعت المعارضة والمطالبين بالإصلاحات السياسية بجميع النعوت السيئة أو إقحام الطائفية أو دول خارجية في الأمر والله الموفق

Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

M'dina Bus: "Without sharing this video, we probably would not have known about this case" (MAINTENANCE)

How to distract people from the internal problems of their country?

Espresso Snickers, Plus Two Other Flavors, Are Coming To The US Next Year